الشيخ د.محمد بن عبد الكريم
1-ملخص المقال
- أدعية قرآنية جامعة
- الحمد لله الواحد الأحد ،والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن وحد .
- أما بعد :
- فقد جاءت أدعية كثيرة في القرآن الكريم ،تجمع في كلماتها أعظم المسائل ،وتشتمل على أسنى المطالب من مثل قول الله تعالى : ] رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[ ، "سورة البقرة ، 286، وما في آخر سورة (آل عمران ) : ]رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [
- دعاء الهداية الى الصراط المستقيم
- ولكن أعظم تلك الأدعية ، دعاء سورة – السبع المثاني والقرآن العظيم-: :] اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [ فبعد التقدمة العظيمة والتوطئة الحميدة التي ابتدأتها السورة بحمد الله والثناء عليه وتمجيده وذكر الأصل الذي من أجله وجد الخلق وهو] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[ والذي فيه الإعلان التام بالخضوع إلى الله والالتزام إليه بالعبودية وأنه لا معين على عبادته إلا هو سبحانه كما قال تعالى:] فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [، "سورة هود /123" ثم بعد هذه المقدمة والصدر جاءت خاتمةُ أحسن فاتحة بسؤال الله تعالى أعظم سؤال،والسير إلى أرفع منال ونيل أفخم مطلوب ألا وهو] اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ[ جاءفي الحديث الصحيح:(( يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ماسأل،إذا قال العبد ] الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ قال الله:حمدني عبدي ,وإذا قال ] الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ [ قال الله : أثنى عليّ عبدي ،فإذا قال ] مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ قال الله : مجدني عبدي وإذا قال] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ قال :هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال:] اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [قال :هذا لعبدي ولعبدي ماسأل )) ،إن ربنا جل وعلا الذي علمنا في هذه السورة كيف نحمده ونثني عليه بالخير كله ونمجده ونعبده مستعينين به وحده في عبادته ولا نكفره ، أرشدنا إلى أن نسأله أشرف الذي عنده مما أدخره لأوليائه وهو سلوك هذا الصراط المستقيم .
- فما هو الصراط المستقيم ؟
- قال أبو جعفر الطبري : "أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه وكذلك ذلك في لغة جميع العرب فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي:
- أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
- يريدها على طريق الحق ، ومنه قول الهذلي أبي ذؤيب:
- صبحنا أرضهم بالخيل حتى تركناها أدق من الصراط
- ومنه قول الراجز :فصد عن نهج الصراط القاصد .
- والشواهد على ذلك أكثرمن أن تحصى ،وفيما ذكرناغنى عما تركنا ،ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل وصف باستقامة واعوجاج ، فتصف المستقيم باستقامته ، والمعوج باعوجاجه ".
4-الصراط المستقيم وفاتحة الكتاب :
- إن السورة فسرت الصراط بوصف إضافي دقيق، وجلته بنعت بلاغي عميق ، قال سبحانه :] صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [ إن الصراط في اللغة هو الطريق وقراءتها بالصاد هي الأشهر، وقرأ قُنبُل عن ابن كثير بالسين كما وأشم الصاد زاياً حمزة بخلاف عنه .
- ] الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم[ : لاشك أنهم الأنبياء وأتباعهم لأن خير من أنعم الله عليهم هم الأنبياء ، قال الله تعالى :] فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً[ ، " النساء /69 " وقال أيضا:] أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً [ " مريم /58 " .ولماكان لنبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك الإنعام النصيب الأوفى ، والقسم الأسنى قال الله تعالى له :] وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً[ ، "النساء/ 113 " كما قال الله له في سورة الإسراء أيضا :] إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً[" الإسراء /87 "، والمقصود أن الصراط المعني إنما هو صراط من أنعم الله عليهم من النبيين والمرسلين وأتباعهم الصادقين من الشهداء والصالحين .
- ولقد جزم القرآن أن الله تعالى هداهم إلى هذا الصراط في غير ما آية :
- قال عن الخليل إبراهيم عليه السلام : ] اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ["النحل 121"،
- وقال عن موسى وهارون عليهما السلام :] وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[ " الصافات /118"
- وقال عن نبينا صلى الله عليه وسلم:] قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم[ ، الانعام /161 "وقال عنه أيضاً:] وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً [، " الفتح /2"وقال عنه أيضا :] وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ["الشورى/52 ".هذا حد الصراط المستقيم من حيث إثبات وسطه، وأما طرفاه المنفيان فهو قوله تعالى بعد ذلك :] غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [ والمغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى، فصراطهم غير صراط النبيين والصديقين ، لأن صراط الأول ( اليهود ) هو طريق التحريف والكذب والبهتان على الله ورسله عن علم ومعرفة كما قال تعالى :] وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) "آل عمران 78 " ولهذا سخط الله عليهم ولعنهم ،
- وصراط الثاني ( النصارى) هو طريق الضلال والابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطانا، كادعائهم أن الله ثالث ثلاثة،وقولهم إن المسيح ابن مريم ابن الله،قال تعالى :] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ["المائدة/77 ".
- أقوال أهل التفسير في تأويل الصراط المستقيم:
- قال شيخ المفسرين الطبري "والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي – أعني ] اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم[ أن يكون معنياً به: ووفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل وذلك هو الصراط المستقيم ، لأن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء فقد وفق للإسلام ،وتصديق الرسل ،والتمسك بالكتاب ،والعمل بما أمر الله به ، والإنزجار عما زجره عنه ، واتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان علي ،وكل عبد صالح وكل ذلك من الصراط المستقيم "ولقد اختلفت عبارات الصحابة رضوان الله عليهم وكذا من جاء بعدهم في تحديد معنى "الصراط المستقيم" وكلها من باب اختلاف التنوع لااختلاف التضاد، ونوجزها فيما يلي:
- القول الأول : الصراط المستقيم هو: القرآن ؛ روي هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "الصراط المستقيم : كتاب الله ".(وهذا أحد القولين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما رواه عنه الثوري، وقال به جماعة من الصحابة والتابعين .
- القول ا لثاني : الصراط المستقيم هو:الإسلام ؛ومن أشهر من قال بهذا القول حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنه حيث قال ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله تعالى : ] اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ[ قال: ذاك الإسلام ،وممن قال بهذا القول :جابر بن عبدالله ومحمد بن الحنفية وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وهوالقول الثاني عن ابن مسعود.
- ولعل هذا القول الثاني هو الأظهر بدلالة القرآن والسنة،أما من القرآن فقوله تعالى :] فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء[،الأنعام ، 122 "إلى قوله:] وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ["الأنعام /126"،وقال تعالى:] قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ["الأنعام /161 ".
- ومن السنة ما رواه الإمام أحمد في مسنده عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلَا تَتَعَرَّجُوا ، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ))
- القول الثالث : الصراط المستقيم :هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده ،قال أبو العالية واستحسنه الحسن وقال: صدق أبوالعالية ونصح .وقد وجه هذه الاقوال الحافظ ابن كثير ) وقال : "وكل هذه الاقوال صحيحة وهي متلازمة فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى بالذين من بعده أبي بكر وعمر فقداتبع الحق,ومن اتبع الحق فقد اتبع الاسلام, ومن تبع الاسلام فقد اتبع القرآن,وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضاً ولله الحمد
- قال شيخ الاسلام ابن تيمية :الصراط المستقيم قد فسر بالقران وبالاسلام وطريق العبودية وكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره فالقران مشتمل على مهمات وأمور دقيقه ونواحي وأخبار وقصص وغير ذلك إن لم يهد الله العبد إليها فهو جاهل بها ضال عنها وكذلك الاسلام وما اشتمل عليه من المكارم والطاعات , والخصال المحمودة وكذلك "العبادة وما اشتملت عليه "
- إن تفاصيل ما يتحقق به الصراط المستقيم مبثوث ولا شك في القران كله وفي تشريعات دين الاسلام كله وعلى سبيل المثال قول الله تعالى في سورة الأنعام: ] قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً[،"الأنعام / 151 "إلى قوله:] وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [،فاسم الاشارة هنا] وَأَنَّ هَـذَا[ بتأمل السياق نجد أقرب ما يصدق عليه في وحدة الموضوع شموله مافي بداية] قُلْ تَعَالَوْاْ[ وجاء تفصيل ما يتلوه r إلى نهاية المطاف فقال ] وَأَنَّ هَـذَا [أي ماتلوته عليكم مما أوحاه إلي ربي هو صراط الله المسقيم فاتبعوه,وهذا السياق من تفصيل الاجمال في فاتحة الكتاب ] اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ[ يفصله:] وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً[،ثم إن من هذا القبيل ما يخبر به سبحانه أنه على صراط مستقيم، يق"الانعام /153 " يقول العلامة إبن القيم رحمه الله (13): ويخبر أنه سبحانه على الصراط المستقيم وهذا في موضعين من القرآن في هود والنحل قال في هود :] مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ وقال في النحل:] وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ لْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [، فهذا مثل ضربه الله للأصنام التي لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل وهي كل على عابدها يحتاج الصنم إلى أن يحمله عابده ويضعه ويقيمه ويخدمه فكيف يسوونه في العادة بالله الذي يأمر بالعدل والتوحيد وهو قادر متكلم غنى وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله فقوله صدق ورشد ونصح وهدى وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة هذا أصح الأقول في الآية وهوالذي لم يذكر كثيرمن المفسرين غيره ومن ذكر غيره قدمه على الأقوال ثم حكاها بعده كما فعل البغوي فإنه جزم به وجعله تفسير الآية ثم قال وقال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم، قلت ودلالته لنا على الصراط هي من موجب كونه سبحانه وتعالى على الصراط المستقيم فإن دلالته بفعله وقوله وهو على الصراط المستقيم في أفعاله وأقواله فلا يناقض قول من قال إنه سبحانه على الصراط المستقيم ، قال وقيل هو رسول الله يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، قلت وهذا حق لا يناقض القول الأول فالله على الصراط المستقيم ورسوله عليه فإنه لا يأمر ولا يفعل إلا مقتضاه وموجبه وعلى هذا يكون المثل مضروبا لإمام الكفار وهاديهم وهو الصنم الذي هو أبكم لا يقدر على هدى ولا خير والإمام الأبرار وهو رسول الله الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وعلى القول الأول يكون مضروبا لمعبود الكفار ومعبود الأبرار والقولان متلازمان فبعضهم ذكر هذا وبعضهم ذكر هذا وكلاهما مراد من الآية قال وقيل كلاهما للمؤمن والكافر يرويه عطية عن ابن عباس وقال عطاء: "الأبكم أبي بن خلف ،ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون"، قلت:والآية تحتمله ولا يناقض القولين قبله فإن الله على صراط مستقيم ورسوله وأتباع رسوله ، وضد ذلك معبود الكفار وهاديهم والكافر التابع والمتبوع والمعبود فيكون بعض السلف ذكر أعلى الأنواع وبعضهم ذكر الهادي وبعضهم ذكر المستجيب القابل وتكون الآية متناولة لذلك كله ولذلك نظائر كثيرة في القرآن .وأما آية هود فصريحة لا تحتمل إلا معنى واحداً وهو أن الله سبحانه على صراط مستقيم وهو سبحانه أحق من كان على صراط مستقيم فإن أقواله كلهاصدق ورشد وهدى وعدل وحكمة: ] وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً[وأفعاله كلها مصالح وحكم ورحمة وعدل وخير فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله ألبتة لخروج الشر عن الصراط المستقيم فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله، وفي دعائه عليه الصلاة والسلام (لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك)14 ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله:والشر لا يتقرب به إليك أو لا يصعد إليك، فإن المعنى أجل من ذلك وأكبر وأعظم قدرا فإن من أسماؤه كلها حسنى وأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها حكم وأقواله كلها صدق وعدل يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه أو أفعاله أو أقواله فطابق بين هذا المعنى وبين قوله:] إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله:] إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم[15 أي:هو ربي فلا يسلمني ولا يضيعني وهو ربكم فلا يسلطكم علي ولا يمكنكم مني فإن نواصيكم بيده لا تفعلون شيئا بدون مشيئته فإن ناصية كل دابة بيده لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه فهو المتصرف فيها ومع هذا فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ونفوذ قضائه وقدره فيها على صراط مستقيم لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك ماله الحمد عليه لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم لا يظلم ولا يفعل شيئاعبثابغير حمكة هكذا تكون المعرفة بالله لا معرفة القدرية المجوسية والقدرية الجبرية نفاة الحكم والمصالح والتعليل والله الموفق سبحانه.
- ولا بد من التنبيه إلى أنه "ليس المراد بمقابل المستقيم المعوج ذا التمعج والتعاريج بل المراد كل مافيه انحراف عن الغاية التي يجب أن ينتهي سالكه إليها .والمستقيم في عرف الهندسة أقرب موصل بين طريقين وهذا المعتى ملازم للمعنى اللغوي كماهو ظاهر بالبداهة وانما قلت – الكلام لمحمد رشيد رضا- إن المراد بمقابل المستقيم كل مافيه انحراف لأن كل من يميل وينحرف عن اتجاه يكون أصل عن الغاية ممن يسير عليها في خط ذي تعاريج لأن هذا الأخير قد يصل إلى الغاية بعد زمن طويل ولكن الأول لايصل إليها أبداً بل يزداد عنها بعداً كلما أوغل في السير وانهمك به.
- وهذا من قبيل قول الله تعالى]وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ["النحل /9" وقوله تعالى :] إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ["الليل/12" ، قال العلامة الشنقيطي رحمه الله :"والمراد أن من سلك السبيل القاصد والطريق المستقيم وصل إلى ربه ليجازيه أحسن الجزاءوهذا أجود التفاسير في الاية فإن عفو الله ورضاه إنما موصل إليه من هذه الطريق كما قال تعالى :] لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ [."15.قال محمد رشيد رضا:"وقد قالوا إن المراد بالصراط المستقيم الدين أوالحق أوالعدل أوالحدود .ونحن نقول إنه جملة مايوصلنا إلى سعادة الدنيا والاخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم .لم سمي الموصل إلى السعادة من ذلك صراطاوطريقا ؟خذ الحق مثلاً وهو العلم الصحيح بالله وبالنبوة وبأحوال الكون والناس ترفض الصراط فيه واضحاً لأن السبيل والصراط ما أسلكه أسير فيه لبلوغ الغاية التي أقصدها كذلك الحق الذي يبين لي الواقع الثابت في العقيدة الصحيحة كالجادة بين السبل المتفرقة المضلة فالطريق الواضح الجلي يشبه الحق للعقل والنفس سير حسي وسير معنوي كذلك إذا اعتبرت هذا المعنى في الحدود والأحكام تجده واضحاً قسمت أحكام الأعمال إلى واجب ومندوب ومباح ومحرم ومكروه فكان هذا مريحاً لنامن تمييز الخير والشر بانفسنا واجتهادنا مبينا الأحكام بالهداية الكبرى وهي الدين كالطريق الواضح يسلك بالعمل.ومع هذا تجد الشهوات تتلاعب بالاحكام وترجعها إلى أهوائها كما يصرف السفهاء عقولهم وحواسهم فيما يرديهم".
- يقول ابن القيم رحمه الله : ولاتكون الطريق صراطاحتى تتضمن خمسة أمور :-
- الإستقامة والايصال إلى المقصود والقرب,وسعة للمارين عليه ,وتعينه طريقا للمقصود,ولا يخفى تضمن الطريق المستقيم لهذه الأمورالخمسة فوصفه بالإستقامة يتضمن قربه لأن الخط المستقيم هو أقرب موصل بين نقطتين ,وكلما تعوج طال وبعد واستقامته تتضمن إيصاله للمقصود ،ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته،واضافة إلى المنعم عليهم,ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقاً .
- "والصراط "تارة يضاف إلى الله إذ هو الذي شرعه ونصبه كقوله تعالى:] وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما[ وقوله:] وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ [وتارة يضاف إلى العباد كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه وهو المنسوب لهم وهم المارون عليه،وذكر الصراط المستقيم مفرداً معروفا تعريفين تعريف باللام وتعريف بالاضافة,وذلك يفيد تعينه واختصاصه وأنه صراط واحد وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه يجمعها ويفردها كقوله تعالى: ] وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ[، فوحد لفظ الصراط وسبيله وجمع السبل المخالفة له،وقال ابن مسعود: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال:((هذا سبيل الله))ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره،وقال:((هذه السبل على كلئسبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله ئعالى:] وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [،وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله وحده واحد .وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه لا يصل إليه أحد إلا من هذا الطريق ولو أتى الناس من كل طريق ,واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله قال الله تعالى:] هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [