المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

تأملات في سورة هود

تأملات في سورة هود

سميت في جميع المصاحف، وكتب التفسير، والسنة بسورة هود، ولا يعرف لها اسم غير ذلك. وكذلك وردت هذه التسمية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن أبا بكر -رضي الله عنه- قال: (يا رسول الله، قد شبت) قال: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت) [رواه الترمذي بسند حسن]. وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض. وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها، ولأن عاداً وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله سبحانه: {ألا بعداً لعادٍ قوم هود} وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح بـ (ألر).

وهي مكية كلها عند الجمهور. وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير وقتادة: إلا آية واحدة وهي: {وأقم الصلاة طرفي النهار}. وقال ابن عطية: (هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة). وهي قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك}، وقوله: {أفمن كان على بينة من ربه} قيل: نزلت في عبد الله بن سلام، وقوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار}. قيل: نزلت في قصة أبي اليسر. والأصح أنها كلها مكية، وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذٍ.

نزلت هذه السورة بعد سورة يونس، وقبل سورة يوسف. وقد عدت الثانية والخمسين في ترتيب نزول السور. ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور، وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة.

وقد عدت آياتها مائة وإحدى وعشرين في العدد المدني الأخير. وكانت آياتها معدودة في المدني الأول مائة واثنتين وعشرين ،وهي كذلك في عدد أهل الشام، وفي عدد أهل البصرة، وأهل الكوفة، مائة وثلاث وعشرون.

وأغراضها: ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة، وبالتنويه بالقرآن، وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى، وبأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمًى، وإثبات الحشر، والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس، وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض، وخلق العوالم بعد أن لم تكن، وأن مرجع الناس إليه وأنه ما خلقهم إلا للجزاء، وتثبيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم: {أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك}، وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته فعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة، وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين، وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح وتفصيل ما حل بهم وعاد وثمود وإبراهيم وقوم لوط ومدين ورسالة موسى تعريضاً بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونهم، وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم، وأن ملاك ضلال الضالين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك، وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه، ثم عرض باستئناس النبي -صلى الله عليه وسلم- وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله، وأن لا يركنوا إلى المشركين، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح، وقد تخلل ذلك عظات وعبر والأمر بإقامة الصلاة. قال الله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك}. لعلّ قول الله تعالى: {فاستقم كما أمرت} وما بعده.. من أشق الآيات التي أثقلت كاهل رسولنا -عليه الصلاة والسلام- واقضت عليه مضجعه، وأقلقت عليه مرقده، وذلك أنها من السور التي شيبت رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال: «شيبتني هود وأخواتها»، وحاول بعض أهل العلم أن يعرف أي آية في هود هي التي شيبته -عليه الصلاة والسلام- فكان أولاها هذه الآية، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (وما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه)، وأورد القرطبي في [تفسيره] عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا علي السري يقول: (رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقلت: (يا رسول الله، روي عنك أنك قلت: ’شيبتني هود‘؟) فقال: «نعم»، فقلت: (ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟) قال: «لا، ولكن قوله: {فاستقم كما أمرت}»؛ ولهذا.. فإنها بحق آية (التشمير)، كما أخرج [ابن أبي حاتم] عن الحسن قال: (لما نزت هذه الآية شمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما رؤي ضاحكاً)، وفي الرواية التي في [الدر]: (لما نزلت هذه الآية: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} قال: «شمروا، شمروا» فما رؤي ضاحكاً. وقد ربط برهان الدين البقاعي بين هذه الآيات وما قبلها ربطاً محكماً فقال: ({وإن كلاً لمّا ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير} فإذا علمت أن شأنك في أمتك شأن الرسل في أممهم، وأنه لا بد من الاختلاف في شأن الرسول والكتاب -كما جرت بذلك السنة الإلهية- وأن الجزاء بالأعمال كلها لا بد منه = (فاستقِم) أي: أوجد القوم بغاية جهدك بسبب أنك لا تكلف إلا نفسك، وأن الذي أرسلك لا يغفل عن شيء، ومن استقام استقيم له).

إن قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} أمر من الله تعالى إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء. وقيل: (استقم) أطلب الإقامة على الدين من الله، وأسأله ذلك، فتكون السين سين السؤال كما تقول: ’أستغفر الله وأطلب العون منه‘، والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين وجهة الشمال، فاستقم على امتثال أمر الله، وكان سفيان بن عيينة يقول: (استقم على القرآن)، وهذا فيه أن الاستقامة تكون على الوحي لا على الأهواء، كما حذرت آيات الاستقامة في سورة الشورى من ضد ذلك: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم}؛ لأن كل ما خالف هدي الله الأعظم الذي هو القرآن فهو دخيل الهوى، كما قال تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم}، قال البغوي: (استقم على دين ربك والعمل به، والدعاء إليه كما أمرت).

إن الآيات بعد ذلك تحث وتأمر بكل ما يشد من عرى الاستقامة؛ فتأمر بالتوبة: {ومن تاب معك}، وتنهى عن الطغيان ومجاوزة الحد، وهذا فيه ضبط الاستقامة والسير بها نحو القصد من غير شطط، {ولا تطغوا}، وفيه استجاشة الضمير وتنبيه القلب إلى مراقبة الله وحده {إنه بما تعملون بصير} ثم التحذير من الركون إلى الطغاة والكافرين والرضا بأعمالهم {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}، ولما كان الطريق شاقاً فإنه بحاجة إلى مذكر على الدوام ومبصر وزاد {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل}، كما لابد للاستقامة من صبر ومصابرة على أقدار الله تعالى وشرعه {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}، ثم لا بد من القيام بحق إقامة الآخرين بعد الاستقامة، وذلك يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين}، وهكذا يجد المتأمل لهذه الآيات النفس أمام حشد من التعاليم التي ترتبط مع الاستقامة برباط متين، وتحوط أطرافها بسياج منيع، كما ويتلمس المتدبر -وبوضوح- أبعاد هذه الاستقامة على الشريعة، ويعلم أنها ليست مجرد قول القائل: ’استقمتُ‘ بل ولا هي عمل واحد يؤديه المستقيم ثم يقول: ’استرحتُ‘، وإنما هي العقيدة المتينة النقية التي تعلقك بالله تعالى وتربطك به، وعبادات شريفة تعلي من إيمانك وتسمو بروحك إلى الهدى وتأمرك بالخير وتنهاك عن الشر وتزجرك، ثم هي أخلاق كريمة وآداب رفيعة تهذب طباعك وتشذب خلالك. وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة والتدبر الدائم والتحري الدائم لحدود الطرق وضبط الانفعالات البشرية التي تُميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً، ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة.

قال البيضاوي في [تفسيره]: (لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب في شرح الوعد والوعيد، أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالاستقامة مثل ما أُمر بها، وهي شاملة للاستقامة في العقائد، كالتوسط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصوناً بين الطرفين، والأعمال من تبليغ الوحي، وبيان الشرائع ما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها.. وهي في غاية العسر ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «شيبتني هود».