المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

تدبُّر (1)

تدبُّر (1)

القرآن بركة، ومدخل نيل هذه البركة بـ(التدبر)، لتحصُل (الذكرى) قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ سورة ص الآية 29.

لابد أن تعمل أجهزة استقبال العلم والمعرفة = السمع والبصر والفؤاد ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾سورة الإسراء الآية 36.

أقول: تعمل هذه الأجهزة الثلاث بـ (مرادات الله جل في علاه) لتحصل لها الذكرى ﴿  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ سورة ق الآية 37

هذه السلسلة في "التدبر" نختار فيها ثلاث آيات من كلٍ جزءٍ من كتاب الله تعالى، نقف عند تأويلها، وألطف المعاني فيها، سأل الله تعالى أن تقع موقعها في القلب، فيحصل العلم المنشأ للعمل، فيحصل الخير الكثير بإذنه تعالى.

الجزء الأول ..

 -1قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة 21

قال القرطبي: "قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس اعبدوا) قال علقمة ومجاهد: كل آية أولها (يا أيها الناس) فإنما نزلت بمكة، وكل آية أولها يا أيها الذين آمنوا فإنما نزلت بالمدينة. قلت: وهذا يرده أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما (يا أيها الناس). وأما قولهما في (يا أيها الذين آمنوا) فصحيح".

قال الشنقيطي: "أشار في هذه الآية إلى ثلاثة براهين من براهين البعث بعد الموت، وبينها مفصلة في آيات أخر: الأول: خلق الناس أولاً المشار إليه بقوله (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)، لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني، وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده)، وقوله: (كما بدأنا أول خلق نعيده)، ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي الإيجاد الأول، كما في قوله: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه).

قال الشعراوي: " الله يقول: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) نتقي ماذا؟ نتقي صفات الجلال في الله، فالله تعالى له صفات جلال وصفات جمال، صفات الجلال هي الجبار والقهار والمتكبر وغيرها من صفات الجلال. فالله يريدنا أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية حتى لا نغضب الله، فيعاملنا بمتعلقات صفات جلاله، وأن نتمسك بصفات جمال الله: الرحيم الودود، الغفار، فإذا نجحنا في ذلك كان لنا نجاة من النار التي هي أحد جنود الله، ومتعلقات جلاله".

 -2قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ  ﴾ البقرة 129

قال الطبري: "وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى)، ويعني تعالى ذكره بقوله: "يتلو عليهم آياتك": يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه".

قال ابن عاشور: "كرر النداء لأنه عطف غرض آخر في هذا الدعاء وهو غرض الدعاء بمجيء الرسالة في ذريته لتشريفهم وحرصا على تمام هديهم .وإنما قال "فيهم" ولم يقل "لهم" لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة فلا يكون ذلك الرسول رسولا إليهم فقط، ولذلك حذف متعلق رسولا ليعم،… (والحكمة) العلم بالله ودقائق شرائعه وهي معاني الكتاب وتفصيل مقاصده، وعن مالك: الحكمة معرفة الفقه والدين والاتباع لذلك، وعن الشافعي الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال الشعراوي: " وقوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) يجب أن نعرف أن هناك فرقا بين التلاوة وبين التعليم. فالتلاوة هي أن تقرأ القرآن، أما التعليم فهو أن تعرف معناها وما جاءت به لتطبقه وتعرف من أين جاءت.. وإذا كان الكتاب هو القرآن الكريم فإن الحكمة هي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال الحق سبحانه وتعالى فيها في خطابه لزوجات النبي: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)، و(وَيُزَكِّيهِمْ) أي ويطهرهم ويقودهم إلى طريق الخير وتمام الإيمان. (إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) أي العزيز الذي لا يغلب لجبروته ولا يسأله أحد، والحكيم الذي لا يصدر منه الشيء إلا بحكمة بالغة.

 -3قوله تعالى: ﴿ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾ البقرة 138

قال الطبري: "يعني تعالى ذكره ب(الصبغة): صبغة الإسلام. وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تنصر أطفالهم، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس، بمنزلة غسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانية. فقال الله تعالى ذكره إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به : (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) قل لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيم، صبغة الله التي هي أحسن الصبغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة، ودعوا الشرك بالله، والضلال عن محجة هداه".

قال البغوي: " قوله تعالى : (صبغة الله) قال ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة والحسن: دين الله، وإنما سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب، وقوله تعالى (ومن أحسن من الله صبغة) ديناً وقيل: تطهيراً، وقوله تعالى (ونحن له عابدون) أي: مطيعون ".

قال الشعراوي: "قوله سبحانه: (صِبْغَةَ اللَّهِ) فكأن الإيمان بالله وملة إبراهيم وما أنزل الله على رسله هي الصبغة الإلهية التي تتغلغل في الجسد البشري، ولماذا كلمة صبغة؟ حتى نعرف أن الإيمان يتخلل جسدك كله، إنه ليس صبغة من خارج جسمك ولكنها صبغة جعلها الله في خلايا القلب موجودة فيه ساعة الخلق، وقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) استفهام لا يمكن أن يكذبوه ولكن الجواب يأتي على وفق ما يريده السائل سبحانه من أنه لا يوجد من هو أحسن من الله صبغة. وقوله تعالى: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) أي مطيعون لأوامره والعابد هو من يطيع أوامر الله ويجتنب ما نهى عنه.