حاوره: علاء الدين عبد الماجد
يشهد العالم والعمل الإسلامي مرحلة سياسية حرجة، ولحظة تاريخية خطيرة وفارقة، تختلف فيها تقديرات العلماء والمفكرين والمثقفين حول تحديد منهج التغيير الأمثل، الذي يوافق الشرع، ويلبي متطلبات الواقع والعصر.
وفي ظل خطاب ثوري يجتاح العالم العربي بعد ثورات ربيعه، وما يتطلع إليه المسلمون من إنهاء الفساد، وإزالة الطغيان الذي في بلادهم، الذي عاشوا فيه ردحاً من الزمان، والسودان ليس بدعاً مما يدور حوله.
شبكة الهداية الإسلامية أجرت حوارًا مطولاً مع مشرفها العام الشيخ د. محمد عبد الكريم رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم، وإمام وخطيب مسجد مجمع الجريف غرب الإسلامي حول المشاركة السياسية للأحزاب الإسلامية.
لا أريد أن أسرق من وقت القارئ كثيرًا، وأتمنى أن يسهم هذا الحوار في تعميق وتقريب وجهات النظر، وإدارة حوار مدعم بالدليل الشرعي حول الأفكار التي طرحت فيه.. والإجابة على السؤال المهم: أين نضع أقدامنا في المرحلة القادمة؟.. فإلى مضابط الحوار
حاوره: علاء الدين عبد الماجد علي
شبكة الهداية: ما هي جدوى ودواعي وجود (حزب سياسي إسلامي) جديد في السودان؟
– هنالك عدة مبررات..
أولها: إنّ كثيرًا من الأحزاب المختلفة في الساحة السياسية لا تتبنى المنهج الإسلامي، وإنما تنطلق من منطلقات بعيدة عن الهدي الإسلامي، في حين أن الشعب السوداني ينتظر أن يُحكم بالشريعة من قبل أمناء أكفاء لا يرفعون الشريعة مجرد شعار.
المبرر الثاني: فشل الحزب الحاكم، فهناك بون شاسع بين ما يرفعه من شعار وما هو عليه في الواقع، وهذا يحتّم على الإسلاميين أن يعارضوا هذا النظام من منطلق التوجه الإسلامي الصحيح حتى لا تكون فتنة.
المبرر الثالث: إنّ القوى الخارجية تتربص بما بقِي من السودان، لمحاولةِ تمزيقه، وتقطيعِ أوصاله، والمشروع الكفيل بالتصدي لهذه الهجمة ومشاريعها، هو الحزب السياسي الذي ينطلق من منهج الأمة وعقيدتها، ويعمل على وحدتها بعيدًا عن القبلية والجهوية التي كادت أن تعصف بالسودان فتجعله شذر مذر، ويلبي في ذات السياق أشواق الجماهير التي طالما حلمت بتطبيق الشريعة، ولا أدل على ذلك من تأييد من يرفعها شعارًا ويدعو إليها.
شبكة الهداية: ذكرتم في مبررات وجود حزب سياسي إسلامي بغرض معارضته للحكومة، فهل يتكون حزب إسلامي لمعارضة حزب إسلامي في الدولة؟
أولاً: الحزب الحاكم لا يريد أن يتبنى الإسلام دستورًا وواقعًا، فهو منذ ربع قرن يمنّي الشعب السوداني بالإسلام، فإذا كتب دستورًا في أي مرحلة لا يبغيه إلا عوجًا ودغمسة، فمن أين له وصف الإسلامية؟! فنظام الإنقاذ عجز عن أن يلبي طموحات الشعب السوداني في أن يعيش الإسلام واقعًا سياسيًا، ومنهاجًا أخلاقيًا.
ثانياً: عجزت حكومة الإنقاذ في تحقيق ما يصبو إليه الشعب السوداني من العدالة والكرامة والعيش الحميد، وعوضًا عن ذلك تفشّى الفساد، ونهبت الثروات. والكل وصل إلى قناعة أن هذا النظام قد وصل إلى التكلس والشيخوخة التي عجز معها إصلاحيو النظام أنفسهم من الداخل عن رتق الفتق، وإصلاح الخلل.
شبكة الهداية: ما هو توصيفكم لحكومة السودان؟ هل هي حكومة (إسلامية) أم (غير إسلامية)؟ لأن توصيفها فرع من معارضتها؟
الدولة بشهادة القائمين عليها "ليست إسلامية"، لأنهم لا يريدون التنصيص على ذلك في دستورهم، بل لا يشترطون ذلك في هويتها، ونتذكر شهادة عبدالعزيز شدو على أنّ دستور (98) ليس إسلاميًا، وما كتبه الشيخ عطية محمد سعيد حينها عن عدم إسلاميته، ثم أن ما تلى ذلك الدستور من الدساتير كان أكثر دغمسة وتلبيسًا!
شبكة الهداية: ماهي المرجعية التي ينبغي أن تكون للحزب السياسي الإسلامي؟
المرجعية للحزب الإسلامي هي المرجعية الإسلامية، المتمثلة في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 51]، ثم الإجماع، والقياس الصحيح.
والسلطة تكون للشعب في اختيار الحاكم، مع التنصيص على الحقوق والواجبات التي ترعاها الشريعة وتحقق كرامة الإنسان، وقد بيّنا تلك القواعد في مقالة بعنوان: (ملامح الدستور الإسلامي).
شبكة الهداية: أيّ شريعة يُراد لها أن تُطبّق في السودان، شريعة (أنصار السنة، الإخوان، حزب التحرير) من جهة؟ أم شريعة (السنة، الشيعة، المعتزلة العصرانيين)؟
الشريعة التي ندعو إليها هي شريعة الكتاب والسنة، وذلك هو الذي عليه عموم أهل السودان، ومع وجود المخالفات العقدية والسلوكية عند كثير من الناس إلاّ أنه ليس في السودان سنةٌ وشيعة، بل عموم أهل السودان هم من عموم أهل السنة -أقصد بمفهومه العام في مقابل الشيعة -.
وعليه فإنه لا خلاف بين الجماعات الإسلامية كلها على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، وقد كوّنت قبل بضع سنوات جبهة للدستور الإسلامي أيّدَتْها في مشروع صوغ الدستور كافة الجماعات الإسلامية.
ثم إنه قد كانت الشريعة الإسلامية منهاج دول الإسلام المتعاقبة؛ منذ الخلافة الراشدة إلى دولة بني عثمان، مع وجود الاختلافات المذهبية، والآراء الفقهية، فهذا الاختلاف أقصد به –اختلاف التنوع– لا يمنعُ من الاتفاق على الأصول العامة، والقضايا الكلية، التي تتأسس عليها الشريعة الإسلامية.
شبكة الهداية: ألا يُعد تكوين حزب سياسي إسلامي زيادة في تفرقة المسلمين على ما هم فيه من فُرقة؟
الفرقة واقعة، وستتفاقم أكثر وأكثر، إن لم يتدارك أهل الإسلام ذلك، والمأمول هو أن يكون لأهل الدعوة إلى الشريعة حزب واحد؛ لأنّ القاعدة الشرعية الإسلامية تقول: (إنه لا نصر، ولا تمكين، ولا عزة، ولا دولة، إلاّ بالوحدة الإسلامية، على أساس الشريعة الإسلامية).
وعلى كل حال، فإن تعدد الأحزاب لا حرج فيه، إذا لم يترتب عليه محظور شرعي، كأن يتخذ وسيلة للتنافس والتعصب المذموم، وعقد الولاء والبراء على أمور جاهلية، واحتقار أحد من المسلمين، والتقليل من شأنه وغيبته والطعن فيه، وتزكية النفس والتشبع بما لم تعطه، أو الدعوة إلى القبلية والجهوية التي تفرق الناس.
فإذا وجد شيء من هذه المحاذير وجب إنكاره وبذل النصيحة لمن وقع فيه، ومع ذلك فلا ينبغي التسرع في الحكم بالحرمة على المجموع وعلى القضية برمتها، لأنه لا بد من الموازنة بين المصالح والمفاسد، وهذه التعددية إذا انضبطت بالضوابط الشريعة يمكن أن يترتب عليها عدة مصالح: كصيانة الحقوق، وتحقيق الرقابة المالية والإدارية، وتطبيق مبدأ الشورى، والتعاون على البر والتقوى.
شبكة الهداية: أليس من الأفضل العمل على إصلاح فصائل العمل الإسلامي الموجودة أصلاً (إخوان، أنصار سنة، حزب تحرير) بدلاً عن قيام كيان جديد؟
إذا كان المقصود من السؤال الجماعات الإسلامية؛ فالجماعات الإسلامية ليست أحزابًا سياسية، وإنما هي تعمل في مجال إصلاح المجتمع، وكل جماعة لها أهدافها ووسائلها وأولوياتها..
وأما حزب التحرير فإنه حزب أقرب إلى تثقيف المسلمين بالفريضة الغائبة؛ ألا وهي الخلافة الإسلامية، دون أن تكون له برامج عملية في الإصلاح السياسي، ولكنه من جملة الأحزاب الإسلامية التي ترى -من حيث المبدأ- تطبيق الإسلام والدعوة إليه، واستئناف الحياة الإسلامية عليه.
شبكة الهداية: هذه عين دعوى (العلمانية)، وذلك بالفصل بين ما هو دعوي وسياسي، أليس كذلك؟
ليس الأمر كذلك..
هذا التقسيم سببه الإطار التنظيمي الذي هو موجودٌ في القوانين الحالية لتنظيم العمل السياسي، وإلاّ فإن الجماعة الدعوية من أعمالها الإسهام في السياسة من جهة النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.. بل والاحتساب ما أمكنها ذلك.
ولكنها بحسب النظام المعمول به في ممارسة النشاط السياسي، لا تستطيع أن تتجاوز حدود النصح والإرشاد، مع أن العمل السياسي في صورته المعاصرة أعم من أن يكون تكوينًا لحزب سياسي، أو مشاركة في بلديات أو محليات، وقضية الدعوة إلى الله تعالى وتحكيم الشرع المطهَّر تعتبر مطلبًا أساسيًّا من مطالب الدعوة إلى الله ومهماتها، ونَقْل الدعوة إلى ساحات جديدة؛ كالمنابر والمؤسسات السياسية هو من إسماع الكافة الدعوة من خلال كل منبر متاح قال تعالى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104].
شبكة الهداية: إذا افترضنا قيام هذا الحزب، هل سيتم تسجيله عند مجلس شئون الأحزاب؟
نعم.. أرى أن يسجل لدى مسجل الأحزاب السياسية، ويأخذ الصفة الرسمية القانونية لممارسة نشاطه، كأي حزب من الأحزاب الأخرى.
شبكة الهداية: كيف يكون ذلك في ظل الديمقراطية؟
في حالة عدم وجود نظام حكم إسلامي، وفي ظل القهر والاعتساف، ومحاولة فرض الهيمنة العلمانية على البلاد = فإنه يكون السعي إلى إقامة حزب إسلامي أحد الفروض الكفائية، أو أحد الضرورات التي تلجئنا إليها المرحلة، وهذه فتوى للجنة الدائمة لما أرسل إليها: (نحن في دولة أجنبية، دولة ليس فيها حكومة إسلامية، ونحتاج أن نعمل حزبًا إسلاميًا؟)، قال: (هذا من التعاون على البر والتقوى)، كلام الشيخ ابن باز -رحمه الله-، وكلام الشيخ ابن عثيمين.
ونحن هنا لا نقول بالاعتراف بالكفر بحال، بل نعلنها مدوية أنّ الديمقراطية التي تعطي التشريع للشعب مطلقًا، فتحل بالهوى، وتحرم بالهوى = هي كفر وردة، وليس معنى ممارسة العمل السياسي هو التخلي عن الدعوة، وترك مفاصلة الباطل، بل هو من قبيل الاحتساب على المنكرات السياسية، وكشف فساد المفسدين، وعبث العابثين بمقدرات الأمة ومصائرها، وهذا النهج من الإصلاح الذي يسير بالأمة صعدًا في مدارج القوة والعافية، ويمضي بها إلى مراقي العزة والتمكين.
والناظر في الساحة السياسية السودانية يرى أحزابًا مسجلة وفق القانون، ثم تجعل هدفها الأساسي في المعارضة إسقاط النظام بالطرق السلمية، وتغيير الدستور كما هو حال حزب الأمة، والمؤتمر الشعبي.
وحزب التحرير المسجل لا يزال يحذر من الديمقراطية، ويدعو إلى الخلافة، وفي هذا رد على الإخوة الذين يظنون أنه يلزم من العمل الحزبي والمشاركة السياسية الإقرار بالشرك والباطل.
شبكة الهداية: ورد على لسانكم (بالطرق السلمية)، السؤال هنا: هل هذا من منهج التغيير؟
الإسلام يتدرج في هذا الباب؛ مثل تعامله مع سائر المنكرات، بحسب القدرة الشعبية، والشوكة السياسية، فتارةً يكون ذلك بالطرق السلمية والنصح، وأنواع الاحتجاجات المشروعة، وقد يكون ذلك بالطرق الثورية؛ كما وقع في كثير من بلدان الربيع العربي.
شبكة الهداية: على هذا نتوقع مشاركة هذا الحزب في الانتخابات القادمة؟
نعم، يمكن للحزب المشاركة في الانتخابات، في أي مستوى من المستويات، بحسب الإمكانية والظروف المواتية حينها، لأن ميدان التنافس الحزبي هو البرامج والمشروعات، والحزب الإسلامي سيطرح مشروعه الإسلامي وبرنامجه الانتخابي، ويسعى في إقناع الناخبين بذلك، مثله مثل بقية الأحزاب الأخرى.
شبكة الهداية: يبقى السؤال الأخطر: الديمقراطية (كفر) كما يرى فضيلتكم، وعليه فإن المشاركة في الانتخابات الديمقراطية (كفر) كذلك، أليس هذا إقرار بل مشاركة في الكفر؟
نعم، لا زلنا نؤكد على أن الديمقراطية التي تجعل من الشعب إلهًا يحكم ما يريد، دون اعتبار ما حكم الله تعالى به في كتابه أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- هو خروج عن الإسلام، ولكن التعامل مع الواقع عند فرض الديمقراطية له فقهه على اعتبار الضرورة والحاجة.
لا يقول عامة العلماء في هذا العصر في مختلف الأمصار بهذا القول إلاّ ما ندر، ففتاوى العلماء في جواز تأسيس الأحزاب السياسية الإسلامية، والمشاركة الانتخابية أكثر من أن تحصر في هذا المقام.
وأذكر على سبيل المثال فتاوى مشايخ السعودية في اللجنة الدائمة، وكان على رأس هؤلاء العلامة ابن باز -رحمه الله-، وحتى من كان من خارج اللجنة كشيخنا العلامة محمد الصالح العثيمين -رحمه الله-، وعلماء الشام مثل العلامة المحدث الألباني، والسباعي، ومن علماء مصر من أمثال العلامة أحمد محمد شاكر، وعلماء الأزهر، ومن الكويت العلامة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، والشيخ الدكتور حامد العلي، وغيرهم كثير..
واستدل هؤلاء العلماء القائلون بالجواز بالقرآن الكريم، والسنة النبوية، والقواعد الأصولية والفقهية، والمعقول.
فمن الاستدلال بالقرآن ما أخبر الله به عن يوسف -عليه السلام- في قوله تعالى: { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 55-56].
ووجه الدلالة هو ما قال الألوسي: (فيها دليل على جواز طلب الولاية، إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة، وإن كان من يد الكافر أو الجائر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقفت على ولايته إقامةُ واجبٍ مثلاً، وكان متعيِّنًا لذلك) [روح المعاني، للألوسي، (5/ 13)] بتصرف.
واستدلوا أيضًا بمشاركة يوسف عليه السلام -فعلاً- في الحكم في مجتمع مشرك، لا يقوم الحكم فيه على قواعد الإسلام، وإنه حين طلب هذه الولاية علل طلبه بأنه يتمتع بصفات تؤهله لتحمل المسئولية، فوصف نفسه بأنه: حفيظ عليم.
ويقول الدكتور عمر الأشقر: (بناءً على ذلك كله، يظهر لنا جواز المشاركة في الحكم غير الإسلامي، من خلال عرض قصة يوسف -عليه السلام- إذا كان يترتب على ذلك مصلحة كبرى، أو دفع شر مستطير، ولو لم يكن بإمكان المشارك أن يُغَيِّرَ في الأوضاع تغييرًا جِذريًا) [حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر، ص: 32].
واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [هود: 91].
ووجه الاستدلال هو ما قاله العلامة الشيخ السعدي في تفسيره للآية السابقة: (ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، وقد يعلمون بعضها، وقد لا يعلمون شيئًا منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم، وأهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجمَ قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأسَ بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك؛ لأنَّ الإصلاح مطلوب، حسب القدرة والإمكان).
فعلى هذا، لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية، يتمكن فيها الأفراد والشعوب، من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عَمَلَةً وخَدَمًا لهم.
نعم، إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعيّن، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدَّمة، والله أعلم) [تيسير الكريم الرحمن، للسعدي ص: 389].
واستدلوا من السنة النبوية بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) [أخرجه: مسلم] من حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه-، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ) [أخرجه: مسلم] من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-.
وإن لم يستطع إزالة المنكر لكن أمكنه التخفيف منه، فذلك واجب عليه، فمن أصول الشريعة تقليل المفاسد إن لم تمكن إزالتها، قال ابن القيم -رحمه الله-: (إنكار المنكرات أربع درجات:
– الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
– الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
– الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
– الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة).
ومن أدلته قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16]، والحديث: (إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم)، والأدلة على هذا المعنى كثيرة..
وقالوا قد دل الحديثان على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة السياسية، ويترتب على ذلك القول بمشروعية الدخول في المجالس النيابية، حيث أنها الوسيلة الفعالة للأمر والنهي والإنكار في هذا الميدان.
كما استدلوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلُّوا على أخيكم أصحمةَ) [أخرجه: البخاري، ومسلم] من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- .
ووجه الاستدلال أن النجاشي ظلَّ حاكمًا على نظام يحكم بغير شريعة الله بعد إسلامه، ومع ذلك عدّه النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً صالحًا، وصلى عليه بعد موته، ولم يُـخَطِّئْهُ في فعله، ومما يشهد بإسلامه: هذا الحديث، وجميع الروايات التي ذكرها البخاري حول موت النجاشي، ونعي النبي -صلى الله عليه وسلم- له، والصلاة عليه، ومنحه وصف الصلاح، تؤكد أنه كان مسلمًا، مع أنه كان ملكًا لأمة كافرة، يحكمها وفق ما اعتادته من نظام وأعراف، وقد وصفه ابن حجر بأنه (كان ردءًا للمسلمين نافعًا) [الإصابة، لابن حجر، 1/ 205].
وقد ساق الدكتور عمر الأشقر مجموعة من الأدلة على أن النجاشي -رضي الله عنه- لم يحكم في قومه بشريعة الإسلام، منها: (قوله في رسالته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فإني لا أملك إلا نفسي)، ومنها: أن قومه قد خرجوا عليه يريدون خلعه، فنصره الله على خصمه، وكان حجته على قومه أنه لم يُغَيِّرْ، ولم يُبَدِّلْ مما عرفوه عنه، مع أنه اعتقد بالإسلام باطنًا، وبعث يعلم رسول الله بمعتقده) [حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر، ص: 74- 75].
قال ابن تيمية: (والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا، بل وإمامًا، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا بشرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها) [مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 19/ 218- 219].
وقد سئل الشيخ ابن باز -رحمه الله- عن استخراج بطاقة الانتخاب بنيّة انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس فأجاب: (إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل، لِما في ذلك من نصر الحق، والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله، والله الموفق) [معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، لمناع القطان، ص: 166].
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق معلقًا: (وأنت ترى هنا أن سماحة الشيخ -رحمه الله- اعتمد في فتواه على أمور:
أولاً: أن هذه نية صالحة في تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل.
ثانيًا: أن في الدخول إلى مجلس الشعب نصرًا للحق، وانضمامًا إلى الدعاة، وتأييدًا لهم.
فإذا أضفت هذا المعنى إلى ما سبق من قول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي = اتضحت لك الصورة أكثر، وأن الدخول إلى هذه المجالس تقليل للشر، وتأييد للحق).
ثم يتابع فيقول: (وبهذا أيضًا أفتى سماحة والدنا وشيخنا محمد صالح العثيمين شفاهًا لعدد كبير من الإخوة طلاب العلم الذين سألوه عن حكم الترشيح للمجالس النيابية، فأجابهم بجواز الدخول، وقد كرر عليه بعضهم السؤال مع شرح ملابسات الدخول إلى هذه المجالس، وحقيقة الدساتير التي تحكم، وكيفية اتخاذ القرار، فكان قوله حفظه الله في ذلك (ادخلوها، أتتركوها للعلمانيين والفسقة؟!) وهذه إشارة منه -حفظه الله- إلى أن المفسدة التي تتأتى بعدم الدخول أعظم كثيرًا من المفسدة التي تتأتى بالدخول إن وجدت) [سلسلة كتب ورسائل الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق 5/ 469- 470].
ويلخص الدكتور محمد يسري الأدلة من المعقول فيما يلي:
1- (دخول البرلمان والمشاركة في الحياة النيابية سبيل من السبل التي يمكن من خلالها الوصول إلى تحكيم الشريعة، وإقصاء القوانين الوضعية؛ لأن دعوة الأمة من خلال الدعاية الانتخابية إلى تطبيق الشريعة سيجعل الأمة تقف بجوار المرشحين الذين ضمَّنوا برامجهم تطبيق الشريعة الإسلامية، فإذا ما وصل هؤلاء المرشحون وصاروا نوابًا أمكن أن يطبقوا الشريعة بطريقة سلمية دستورية). نقلاً من: [الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر، للشيخ أحمد شاكر، ص: 40- 41].
فإذا لم يستطع هؤلاء النواب أن يطبقوا الشريعة فإنهم سيقدرون على تبني قضية الإسلام من خلال منبر البرلمان، وسيتمكنون من الدعوة إلى اللَّه في هذا المكان المهم، وذلك عملاً بقول اللَّه تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125].
2- (إن الأمة مخاطبة في الشرع، ومسئولة عن تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية، والحكم بمقتضاها، وإدارة شئون البلاد والعباد بحسب ما جاء فيها، وبما أنه يتعذر على الأمة كلها القيام بذلك الواجب، فلا بد من أن ينوب عنها من يتولى امتثال ذلك الأمر، وتنفيذ ما ألزمت به في الشرع، وإنما يتم اختيار هؤلاء النواب من خلال ممارسة الأمة حقها في انتخاب من يمثلها وينوب عنها لتأدية الحق الواجب عليها، وصيانة حقوقها ومصالحها، ودفع الشر عنها) انظر: [بحوث فقهية معاصرة، د. عبد الكريم زيدان، ص: 93- 96].
فعلى الأكفاء أن يعرضوا أنفسهم على الأمة لتنتخبهم وتختارهم للنيابة عنها في هذا الواجب، ويجب على الأمة أن تختار وتستنيب هؤلاء الأكفاء، وليس هناك طريق للأمة ولا للأكفاء منها إلا طريق الانتخابات البرلمانية، فعلينا أن نأخذ بالأسباب الميسرة؛ للقيام بالواجب الكبير، ولا يصح أن نترك ما تيسر لنا انتظارًا لما لم يتيسر؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أن هذا المسلك في التعامل مع الديمقراطية هو خلاف سبيل من لم يعرف دين الله الذي أنزله على محمد -صلى الله عليه وسلم- فيزعم أن الديمقراطية الغربية الليبرالية لا تخالف الدين ما دامت تحترم جميع الأديان، وتساوي بينها، وتعتبر حقوق الأقليات، فلا ينبغي بأي حال أن تسحب أو تلبس تنازلات هذا وأمثاله على المشاركة التي يجوزها كثير من العلماء الذين ذكرناهم .
شبكة الهداية: حسناً ما هي الضوابط التي وضعها القائلون بالمشاركات السياسية المعاصرة؟
أغلب القائلين بالجواز وضعوا لذلك ضوابط منها:
أولاً: ألا يترتب على المشاركة إقرار لتقنين الباطل، وبيان أن حق التشريع مقصور على الوحي، ولا يجوز لأحد من البشر مزاحمة هذا الحق.
ثانيًا: إن المشارك في هذه المجالس يجب أن يُظهر للناس أن مشاركته لا تستلزم الرضا بواقع هذه القوانين المخالفة للشرع ومؤسساتها المنبثقة عنها.
ثالثًا: أن تكون مصلحة المشاركة ظاهرة متحققة، لا خفية أو موهومة، أو لا اعتبار لها، وألا يترتب على تلك المشاركة مفسدة أعظم من المصالح المراد تحقيقها، أو المفاسد المراد درؤها ودفعها.
رابعًا: إن المشاركة في هذه المجالس لا تلغي مبدأ الولاء والبراء، بل يجب أن تكون هذه المجالس ميدانًا لبيان هذه القضية، وتحقيقها، والصدع بها حسب مقتضيات المصلحة الشرعية.
خامسًا: إن المشاركة في هذه المجالس ليست بديلاً عن المنهج النبوي في إقامة الإسلام وتغيير الواقع، وإنما هي من أجل تحقيق المصالح وتخفيف المفاسد.
سادسًا: ألا تفضي هذه المشاركات إلى تضخم العمل السياسي على حساب الجهد العلمي والدعوي، فيجب حساب الأولويات بدقة، وألا يحصر العمل الإسلامي في هذه الدائرة.
سابعًا: ألا يترتب على تلك المشاركات استدراج إلى تنازلات وترخصات لا تقابل بمصالح راجحة، فيفقد العمل مشروعيته، ويذهب جهد أهل الإسلام هباءً.
ثامنًا: عند القسم على احترام الدساتير يقيد بنية الحالف فيما لا يخالف شرع الله تعالى، وإذا كان المستحلف ظالمًا فاليمين على نية الحالف، بخلاف ما إذا كان المستحلف مظلومًا.
تاسعًا: إدراك أن هذه الأعمال مما يدخل في نطاق المسائل الاجتهادية التي لا يصلح فيها اتهام النيات، أو التعدي على المخالف فيها، ونسبته إلى ما لا يحل من المنكرات، كما لا ينكر على من لم يشارك فيها.
شبكة الهداية: بظنك ما هو السبب وراء توقع الشباب أنك ترى خلاف ذلك؟
أظن أنّ هذا الفهم المتبادر إلى بعض الشباب مرده إلى ظنهم أن كل من تحدث عن الحاكمية، وكفر من تحاكم إلى القوانيين الوضعية، أنه بالضرورة يقول بحرمة إنشاء الأحزاب السياسية في ظل الحكومات الديمقراطية، فهذا ليس صحيحًا ولا دقيقًا..
لأنّ أكثر من أصّل لهذه المسألة، قال بجواز إنشاء الأحزاب السياسية، من أمثال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، الذي بيّن منهج أهل السنة والجماعة في الحاكمية في كتبه المختلفة، و مع ذلك ألّف كتابه المشهور [المسلمون والعمل السياسي] فأصّل فيه للعمل السياسي في ظل الحكومات التي لا تحكم بما أنزل الله..
ومنهم العلامة أحمد شاكر، الذي كان يرى جواز تقليد القضاء في ظل الدولة التي تحكم بالقانون المدني.
وكذلك الشيخ د. صلاح الصاوي، وهو من أكثر ممن أصّل لموضوع الحاكمية، ومع ذلك قال بجواز الدخول في البرلمانات، وإنشاء الأحزاب الإسلامية للمطالبة بالحقوق الشرعية.
ومنهم د. عمر الأشقر، صاحب كتاب [الشريعة الإلهية لا القوانيين الوضعية] حيث أصّل في كتابه كفر من حكم بغير ما أنزل الله، ومع ذلك أيّد إنشاء الأحزاب الإسلامية.
شبكة الهداية: قضية (المشاركة في الانتخابات في الدول الديمقراطية) مسألة اجتهادية عندكم. هل هذا ملخص قولكم في المسألة؟
نعم.. هي مسألة فقهية اجتهادية، يسع المرء فيها أن يأخذ بما توصل إليه باجتهاده، دون أن يكون مثارًا للتبديع أو التفسيق، فضلاً عن أن يكون مجالاً للتكفير.
شبكة الهداية: هناك مشايخ أفاضل يرون أن هذه المسألة ينعقد عليها الولاء والبراء، وأن المشاركة في الانتخابات عبر الديمقراطية يعدّ كفرًا، ما قولكم؟
عامة من خالف من هؤلاء المشايخ الفضلاء لا يكفر العلماء الجهابذة الذين ذكرنا أسماءهم، ولا من أخذ بهذا القول من أتباعهم، ولكن يصدر التكفير على التعيين ممن خفي عليه منهج أهل السنة والجماعة في ضوابط التكفير، وهذا شاذٌ نادر.. أما عامةُ المخالفين -وإن قالوا بهذا القول- فإنهم لا يكفّرون.
شبكة الهداية: يدور نقاش حامي الوطيس عبر مواقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك، والواتس أب، حول هذه القضية، فما هي نصحيتكم للشباب؟
الذي أريد أن أنصح الشباب به، أنه لا يجوز لهم أن يخوضوا في مسائل التكفير والتبديع والتفسيق دون الرجوع لأهل العلم الأثبات.. خاصة في شقها القضائي، ولا نزال -ومن قديم- نحذّر من هذا المسلك، وأظن أن هذا الغلو من بعض الشباب ليس منتشرًا في أرض الواقع بما قد يبدو مواقع التواصل الاجتماعي في الإنترنت، بل كثير من الشباب يفهمون أن هذه المسألة من المسائل الخلافية الاجتهادية، وليست من المسائل الحدية التي يكفر فيها المخالف.. وقد ناقشت أعدادًا منهم فرجعوا ولله الحمد.
يتبع ..