د. محمد عبد الكريم الشيخ
سَعَةُ رحمةِ اللهِ وأمرُه عبادَه بالتَّوبة:
يقولُ سبحانه وتعالى ـ مناديًا عبادَه الذِين أسرفوا على أنْفُسِهِمْ بالمعاصي ـ: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزُّمَر: 53]، ويُعْلِنُهَا ربُّنا مَحَبَّةً للتَّائبين والمُنيبِين والمستغفِرين؛ فيقول عزَّ وجلَّ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" [البقرة: 222].
قِصَّةُ قاتِلِ المِائةِ نَفْسٍ:
ويذْكُرُ لنا الرَّسولُ ـ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم ـ قصةً حدثَتْ في غابرِ الأزمانِ، عن رَجُلٍ بلَغ في الإجْرامِ مَبلغًا عظيمًا؛ قَتَلَ تسْعةً وتِسْعينَ نفْسًا، فتُعرَضُ عليهِ التَّوْبَةُ، ويَحِنُّ إلى اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ فيبْحثُ عَنِ الَّذِي يَدُلُّهُ علَى طريقِ الله؛ يَبحث عن الذي يقولُ له هَذا هُوَ الدَّرْبُ إِلى الله. وكثيرٌ مِنَ النَّاس يَحِنُّ إلى التوبةِ فيُخْطِئُ الطَّريقَ، فَيَقَعُ بين يَدَيْ رَجُلٍ لا عِلْمَ له ولا فِقْهَ؛ فإمّا أنْ يُقَنِّطَهُ مِنْ رحمةِ اللهِ؛ فيقفِلَ بابَ التَّوْبةِ أمامَ عيْنَيْهِ، وإمّا أنْ يُسَوِّفَ لَهُ في التَّوْبَةِ ويُرْجِئَ له حتَّى لا يتُوبَ؛ فيقعُونَ فِيمَنْ لا عِلْمَ لهم ولا بصيرةَ بالله. وها هو ذا الرَّجُلُ المسكينُ دُلَّ على راهبٍ لا حَظَّ له مِنَ العلْم؛ فأتاه، فقال: إنَّه قتَل تسعةً وتسْعين نفْسًا، فسأله: هل لي من توبة؟ فقال: لا. فقتَله فكمَّل به مِائةً. وهكذا، وبعْدَ تكميلِ المائةِ إذا بهذَا الرَّجُلِ المجرِمِ يعاوِدُهُ الحنينُ إلى كَنَفِ اللهِ الرحيمِ؛ فيسْأل مرةً أخْرى نفْسَ السؤالِ عَنْ أعلمِ أهلِ الأرْض، ولكنَّه هذه المرةَ يصيبُ الهدفَ فيأتي إلى عالِمٍ ربَّاني يُعامل المذنبِينَ الراجعِين إلى ربهم معاملةَ الطبيبِ الماهرِ للمَرْضَى الملهُوفين؛ فدُلَّ على رجُلٍ عالِم، فقال: إنَّه قتَل مائةَ نفْس، فهَلْ له مِنْ توبةٍ؟ فقال له العالم: نَعَمْ، ومَن يحولُ بينَك وبين التوبة؟ وهذا العالم الرَّبانيُّ ما قال نعم هكذا من تلْقَاءِ نفْسِه، بلْ لِعلْمِهِ بسَعَةِ غُفْران ربِّه.
ضرورةُ تغْيِيرِ البِيئَةِ لتَحْسُنَ التوْبةُ وتسْتَقيم:
ولكنَّه لا يكفي لمثْل هذا الذي تأصَّلتِ الجريمةُ في كِيانِهِ أنْ يقولَ: تُبْتُ، دُون أن يتحركَ أوْ يعْمَلَ؛ فلا بُدَّ مِنَ الحرَكةِ بعْدَ التَّوبة؛ كما قال عزَّ وجلَّ: "إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا" [الفرقان: 25]. ولا بُدَّ لِمَنْ أرادَ التَّوْبةَ: أنْ يَبتعدَ عَنِ الوسَط الفاسِدِ الذي يُذْكي نارَ المعصيةِ في النَّفْسِ، ولا بُدَّ أن تكونَ هناك عمليَّةُ تبْديلٍ جذْريَّةٌ لحياة التائب إلى الله عزَّ وجلَّ؛ فأصحابُ السُّوء يستبدِلهم بأصحابِ التُّقَى والخَير وأصحابِ القرْآن وأحاديثِ النبيِّ، ومجالسُ الغِيبة والنَّميمة يستبْدِلها بمجالسِ الذِّكر والكلِمة الطيِّبةِ والنَّصيحة؛ ولهذا لم يكتفِ العالم الرَّباني بقول: نعم، بلْ قال: انطلق إلى أرضِ كذا وكذا؛ فإنَّ فيها أُناسًا يعبدون الله فاعبُدْ اللهَ معهُم، ولا تَرْجِعْ إلى أرضِك فإنَّها أرضُ سُوء؛ فانطَلِقْ، فانْطَلَقَ. والفاء هنا في قوله: (انطَلَقَ) يدُلُّ على سرْعةِ الإجابةِ على تلبِية النِّداء والصدْقِ في التوبة؛ فالرَّجُلُ ما وقَفَ متردِّدًا في الإجابةِ مقَدِّمًا لرِجْلٍ ومُؤخِّرًا لأخرى، ولا قال في نفسِه: لا، غدًا أتوبُ، أو: بعْد أن أستمتع فترةً أخرى من الزمان، أو: مِنْ بعد أنْ أتزوَّج واستقِر، أو: بعْدَ أن يصيرَ لي حظٌ طيِّبٌ من المال؛ فأتركَ الرِّبا، أو: أتوبُ وأبقى مع رِفاقي الأوَّلِينَ فإنهم هُمُ الذُّخر والسَّنَد. لا، وإنما حصَل عنده رِدَّةُ فِعْلٍ عجيبةٌ تُذكِّرُنا بقوَّة الفاروقِ عُمَرَ ـ رضِي الله تعالى عنه ـ عندما أسلم مباشرةٍ، فخرج يجمع المسلمين؛ لِيَجْهروا بإسلامِهم أمامَ المشركِينَ. فانْطَلَقَ الرَّجُلُ إلى أرض المؤمنين، وإلى مَجالس الصَّالحين، حتَّى إذا نَصَفَ الطريقَ أتاهُ الموتُ، "فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ" [الأعراف: 34]، فناءَ بصدْرِه نحوَها؛ أيْ: توَجَّهَ بصدره نحو البلدة الطيبة. فاخْتصمتْ ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العذاب؛ فقالتْ ملائكةُ الرحْمة: جاء تائبًا مُقْبلاً بقلْبه على الله.
وتفكَّرْ أخي المسلِم في حُجَّة ملائكة الرحمة؛ حُجَّتُهم: أنَّ هذا جاء منطلِقًا, تائبًا. إنهم يَعتبِرون تلك الِانطلاقةَ المباركةَ لهذا الرَّجُل مِنْ بَلَده, وترْكَه لرفقاء السُّوء كفيلاً بأنْ يجعله من أهل الجِنَان, وأنَّ إقبالَه على أرض الطاعة وتَوَجُّهَه بصدره نحو البلدة الطيبة والمؤمنين يُعَدُّ إقبالاً منه بقلْبِه على الله. وقالتْ ملائكةُ العذاب: إنَّه لم يعمل خَيرًا قطُّ. فأتاهم مَلَك في صورة آدميٍّ, فجعَلُوه بينهم؛ فقال الحكم ـ المَلَكُ الذي في صورة آدميٍّ ـ: (قِيسوا ما بيْن الأرضَيْنِ فإلى أيَّتِهِما كان أدنى فهُو له)؛ فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرضِ التي أراد؛ فقبضَتْه ملائكة الرحمة, وفي روايةٍ: (فأوحَى الله إلى هذه أن تقرَّبي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعَدي, وقال: قيسوا ما بينهما. فوُجد إلى هذه أقربَ بشِبْرٍ فغُفِرَ له).
انظُروا إلى الكلاءَةِ الربانيَّةِ بالراجعِين، وإلى العِنايةِ الرحمانيَّةِ بالتائبِين. إنه تاب؛ ولذلك: وحيٌ خاصٌّ إلى الأرضِ؛ مِنْ أجْل عبْدٍ من عَبِيدِه ما فعل خَيرًا سِوَى أنَّه تاب, وإنقلابٌ كونيٌّ هائلٌ؛ بامتداد أرٍض وتقلُّص أخرى من أجل رجُل هجَر المعاصيَ وأهلَها، وقصَدَ المؤمنين وبلدتَهم؛ "فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ" [القصص: 67]، "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء: 146].
كُلُّ الذُّنــوبِ فإنَّ الله يغفِرُهـا *** إنْ شيَّعَ المـــــرْءَ إخلاصٌ وإيمانُ
وكُــلُّ كسـْـــرٍ فـإنَّ الله يجْــبُرُهُ *** ومـا لِكسْرِ قَنــاةِ الدِّيـنِ جُبْـرانُ
تَوْبةُ الأنبياءِ عليهِمُ السَّلام:
فيَا عجبًا بعْدَ هذا مِنَ الَّذِين لا يتوبون إلى الله عزَّ وجلَّ, ويترُكُون طريقَ التوبةِ، الَّتي هي طريقٌ قديمةٌ قِدَمَ الأوَّلِين والآخِرين، يَنْقَسِمون فيها إلى قِسْمَيْنِ؛ إلى: تائب، أو ظالم؛ "وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الحجرات: 11]. تابَ اللهُ عزَّ وجلَّ على الفُجَّار، كما تابَ اللهُ عزَّ وجلَّ على الأبْرار؛ أمَا تابَ آدمُ عليْه السَّلامُ أبو البَّشَر, أبو الأنْبياءِ والمرسلِينَ؟ أما تابَ فتابَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليه حِينَ أكَلَ مِنَ الشَّجرة؛ "وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ" [الأعراف: 22]، وقال ـ عزَّ وجلَّ ـ عنه أيضًا: "وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" [طه: 121، 122]. وأَمَرَ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ نبيَّه بالتوبة؛ فقالَ سبحانَهُ وتعالى: "وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ" [محمد: 19], وأمَرَ صحابةَ نبيِّه؛ فقال: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [النور: 31] وهم الصابرون, وهم المجاهدون.
تاب مُوسى ـ عليه السَّلام ـ فما بالُنا لا نتوب؟ تاب موسى ـ عليه السَّلام ـ حينَ ضَرَبَ ذلك القِبْطِيَّ فوكَزه وقضى عليه؛ فقال مُوسى ـ عليه السلام ـ: "رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [القصص: 16]، وأَعلنَها توبةً حين عاين رحمةَ اللهِ وعظمتَه؛ فـَ "قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ" [الأعراف: 143]. وتاب سليمانُ ـ عليه السلامُ ـ؛ قال عزَّ وجلَّ عنه: "وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ. قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" [ص: 34، 35]. وغَفَرَ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ للمهاجرِينَ والأنْصارِ حين تلبَّسُوا بالطاعةِ وخَرَجُوا في جيْشِ العُسْرَةِ؛ فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: "لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" [التوبة: 117].
فَرَحُ اللهِ بتوْبة العبْدِ:
واللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ يفرحُ بتوْبتِكَ أيُّها العبدُ فَرَحًا عظيمًا. تخيَّلْ نفسَك أعرابيًّا بدويًّا تسير في صحراءَ قاحلةٍ لا شَجَرَ فيها ولا ماءَ، وبين يديك معْقِلُ الأمَل في الحياة بَعْد الله عزَّ وجلَّ؛ راحلةٌ عليها طعامٌ وشرابٌ, فضجِرَتْ هذه الناقةُ وانقلبَتْ وانفلتَتْ؛ فأخذْتَ تجري وراءَها، وتمشي ذات اليمين وذات الشِّمال، تَسِيرُ وتسير وتسير، حتَّى أخذ منك الجوعُ والعطشُ مأخذًا عظيمًا, حتَّى أَيِسْتَ وقَنِطْتَ مِنْ وُجودِ الرَّاحلةِ التي عليها الطعامُ والشَّراب، ولاح لك مِنْ عَلَى بُعْدٍ شجرةٌ لها ظلٌّ فذهبْتَ إلى الشَّجرةِ وانطرحْتَ تحتها لتنام النَّوْمةَ الأخيرةَ التي ليس بعدها استِيقاظ؛ لِأَنَّ المماتَ قاب قوسينِ أو أدنى مِنْكَ. فبينما أنت نائمٌ متوقِّع الممات إذا بالراحلة بين يدَيْك، يسوقُها الله ـ عز وجل ـ إليك، فتأخُذ بخِطامها وتفرح فرَحًا عظيمًا. وإذا كنتَ لا تستطيعُ أن تتخيَّل الحياةَ البدويَّةَ؛ فتخيَّلْ رجُلاً متقدِّمًا إلى عمليَّةٍ جراحيَّةٍ نسبةُ الفشَل فيها أكبرُ مِنْ نسبة النجاح، فدخَل العمليَّةَ وخرج صحيحًا سليمًا. كَمْ يفرَحُ هَذَا المرءُ، وكم يفرح أهلُه به.
فرِحَ الرَّجُلُ فرحًا عظيمًا، وأخذ بخِطام النَّاقة، وقال مِنْ شِدَّةِ الفَرَح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك؛ أخطأ من شِدَّة الفرح. يقول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ: كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا؛ فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِى ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ) [أخرجه مُسلمٌ عن أنَس]. وفي روايةٍ أُخرَى، عن عبد الله بنِ مسْعودٍ ـ رضِي الله عنه ـ: (فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ؛ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ. فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ. فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ).
فأنتَ إذا أحدثْتَ توبةً: فرِح اللهُ عزَّ وجلَّ، أكثرَ من فرَحِكَ بالحياة بعْد استيقانِك بالوفاة والممات؛ ولذلك يحبُّ الصالحينَ التائبينَ المنيبينَ ويرضى عنهم، فهل من توبةٍ قبل الممات؟ وهلْ من إجابةٍ لما دعا إليه ربُّ الأرض والسماوات: "يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزُّمَر: 53]، ويقول الرَّحمن ـ جلَّ في عُلاه ـ: "وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا" [النساء: 110]، ويقولُ سبحانه وتعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا" [النساء: 64].
رَغِمَ أنْفُ امرِئٍ دخل عليه رمضانُ ولم يُغْفَرْ له:
فيا أخي المسلمُ: تُبْ إلى الله توبةً نصوحًا, وحدِّثْني ـ بالله عليك ـ: متى التَّوبة إنْ لم تَكُنْ في هذه الأيَّام؟ ومتى دفْعُ المهور للحور العِينِ في الجنان إذا لم يكُن في هذه الأيَّام؟ أمَا تشتاقُ إلى جنَّةٍ عرْضُها السماواتُ والأرْضُ؟ ألا تُحِبُّ أن تمتلكَ ما لا عينٌ رأَتْ ولا أُذُنٌ سمعَتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بشَر؟. إنَّ أبْواب الجنَّةِ قد فُتِّحَتْ لك أيُّها التائِبُ الصَّائمُ المطيع، فلماذا هذا الجفاءُ لِمَنْ يُقابِلُكَ بالإحسان؟ لماذا هذا الإعراضُ عمَّنْ يُقابلُكَ بالغفران؟ "أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [النور: 22]. لماذا هذا الإصرارُ على متاعِ الدُّنيا الزائلِ في ظلِّ المعاصِي؟. فاتْرُكْ عنكَ الأمانيَّ الكاذبةَ، وأخلِصْ إلى ربِّكَ التَّوْبةَ؛ فإنَّ الأجل قصيرٌ قصيرٌ مَهْما اغترَرْتَ بطُولِ الأمَل؛ "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا" [النساء: 123]. ورمضانُ كالغُرَّةِ المحجَّلةِ في شُهورِ السَّنَةِ، فوَا أسفًا عليكَ إِنْ خرجْتَ مِنْ رمضانَ وأنْتَ أنْتَ؛ لَمْ تتغيَّرْ، ولم ينقلِبْ منك شيْءٌ، ولم يُرفَعْ منك توبةٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ. "فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ" [الذاريات: 50], ولكنْ: متَى الفِرارُ إلى اللهِ إنْ لمْ يكُنْ في هذا الشَّهْر؟!ل موسى عليه السلام: ""إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)""القصص" وأعلنها توبة حين عاين رحمة الله وعظمته فقال: ""قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
""الأعراف
وتاب سليمان عليه السلام قال عز وجل عنه: ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدًا ثم أناب ((وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35))) "ص" , وغفر الله عز وجل للمهاجرين والأنصار حين تلبسوا بالطاعة وخرجوا في جيش العسرة فقال الله عز وجل: "لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)."التوبة".
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التُقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
فيَا أيُّها القارِئُ لما أكْتُب: دعْ عنك الغفلةَ والغُرور, واجعَلْ من شهر الصوْمِ هذا بدايةً لحياة مليئةٍ بالطاعةِ مُفْعَمَةٍ بالخير، اِجْعَلْ من هذا اليومِ نقطةَ البِداية للحِفاظ على الصَّلاة في بُيُوت الله, اِعْزِمْ مِنَ الْآنَ على أن لا تتْرُكَ صلاةً واحدةً تفوتُكَ, اِنْسَ مِنَ اليومِ أنَّكَ ذلك الشَّخْصُ الَّذِي لا يسْتَطيعُ أنْ يستيقِظَ لصلاة الفجرِ في جماعة, زكِّ قلبَك بالقرآن, اُسْكُبِ الدُّموعَ والعبَرَاتِ على ما جَنَتْ يداك في الأيَّام الماضِيَة؛ فعسى اللهُ أنْ يبدِّلَ سيئاتِكَ حسناتٍ، ولا مقارَنةَ بين ما ارتكبْتَ من المعاصِي وسَعَةِ رحْمةِ الله عزَّ وجل؛ فرحمَتُهُ وسعَتْ كلَّ شيْءٍ. وأَقْلِعْ عَنِ الذُّنوب، ولا تخْشَ في تركِها لومةَ لائمٍ ولا تهديدَ مهدِّدٍ, ولا تَقُلْ: هذا الذَّنبُ صغيرٌ. اُتْرُكْ حلْقَ اللِّحيةِ، وَاتْرُكِ الدُّخان، واتْرُكِ المُسْكرات.
أقبل على النفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالنفـس لا بالجسم إنسـانُ
واشدد يديك بحبل الله معتصمًا *** فإنه الـركن إن خـانتـك أركـــانُ
من يتق الله يُحمـد فـي عواقبـه *** ويكـفه شر من عزّوا ومن هانـوا
إنْ كُنْتَ مِمَّنْ يشرَبُ الخمْرَ فاهجُرْها واتركْهَا؛ فإنَّها حرَامٌ, وعشَرةٌ ملعونونَ في الخَمْرِ, وإن كنتَ ممن يأكلُ الرِّبا فذرْها, وإنْ كُنْتَ ممن يأخذُ الرشْوَةَ فاتركْها واكتَفِ بالحَلال؛ فإنَّه خَيْرٌ لك وأبَرُّ لك مِنْ وراءِك بأولادِكَ, ونقِّ مالَكَ مِنَ الحرَام ولا تخْشَ من ذِي العرْشِ إقلالاً؛ فإنَّه سيعوِّضُك خيرًا منها؛ "اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ" [الشُّورَى: 19], وإن كنْت منَّاعًا للخَيْرِ صادًّا عن سبيلِ الله فتُبْ إلى اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ من الصَّدِّ عن سبيلِه, فلا يكُنْ أحدُنا شيطانًا يصْرِفُ النَّاس عَنِ الخَيْرِ وعن السيْر في ركب الصراطِ المستقيم بعد أن صُفِّدَتْ مَرَدَةُ الشياطِينِ، وروِّضْ نفسَكَ في هذا الشهْرِ على المسابَقَةِ إلى الخيرات؛ فما أجْمَلَ أن تتَّصف بصِفاتِ الأنبياءِ الذين قال الله عزَّ وجلَّ فيهم: "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ" [الأنْبِياء: 90]. ولا تلتفتْ أَخِي الحبيب المسلِم إلى الذين يحبُّونك أن تبقَى أبدًا على غَيْرِ هدًى مِنَ الله؛ فإنَّ أكَلَةَ الرِّبا ممن لم يَمُنَّ اللهُ عليهِم بالتَّوبة يحبُّونَ أنْ يأكُلَ النَّاسُ جميعًا الرِّبا, وإنَّ الزُّناةَ يُحبُّونَ مِنَ النَّاسِ أن يزْنُوا جميعًا؛ فانتبِهْ أن يحجِبُوك عنِ التَّوبة, وانتَبِهْ أن يمنعوك عَنِ الخير؛ فإنَّ اللهَ يحبُّ أنْ تتوبَ ويحبُّ الذينَ يتَّبعُونَ الشَّهَوَاتِ أنْ تميلُوا مَيْلاً عظيمًا. فريقٌ مِنَ النَّاس يريدونَ مِنَّا أنْ نكُونَ أعْوانًا لهم في الشَّرِّ والصَّدِّ عن سبيل الله, اِسْتَمِعْ ماذا يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ عنهم: "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا" [النِّسَاء: 27، 28], وصَدَقَ مَنْ قَالَ:
من كان للخير منّاعًا فليس له على الحقيقة إخوان وأخدان
من استعان بغير الله في طلب فإن ناصره عجز وخـذلان
لا تحسبَنَّ سرورًا دائمًا أبدًا:
ويا أيها الشابُّ الذي أنْتَ مغترٌّ بشبابِكَ: رِفقًا ثم رفقًا بنفْسك، وصونًا لدينِكَ وعِرضك. أخي الشاب: كفَاكَ إضاعةً لعُمُرِكَ في غيرِ طاعةٍ لخالقِكَ ومَوْلاكَ, أمَا تفكَّرْتَ في سؤال اللهِ لك يوْمَ القِيامةِ عن شبابِكَ فيمَ أبْلَيْتَهُ؟ لماذا هذا التخلُّفُ والرَّجعيَّةُ عَنْ أن تكونَ ممَّنْ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّ عرشِه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه؟ لماذا هذا التقهْقُرُ عن التأسِّي برسولِكَ وأصحابِه الذين كانوا شبابًا سريعةً إلى الخيرِ أنفسُهم, بطيئةً عن الباطلِ أرجلُهم؟ فهذه نصيحة مِنِّي أُهْدِيها إليك أرجُو أنْ تكونَ لها من المنفِّذِين: فإن كنْتَ أخي من المتهاونِينَ عن الصلاة؛ فعاهِدْ ربَّك أن لا تُفَرِّطَ فيها بعد اليوْم، وتَرَبَّ على المساجد؛ رَبِّ نفْسَكَ على أن تكونَ حمامةَ المسجِدِ؛ فإنَّ الفلاحَ كلَّ الفلاحِ والمستقبلَ الباهِرَ كلَّ المستقْبَلِ هُوَ هناك: في مقْعَدِ صِدْقٍ عند مَلِيكٍ مقْتدر، في جنَّاتٍ ونَهَرٍ، حيثُ الحورُ العِينُ المقْصوراتُ في الخيام يَخْطِبْنَ وُدَّك ولا يعصِينَكَ أبدًا, "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ" [طه: 131]؛ فلا تنْظُرَنَّ إلى ما حرَّم الله في التِّلفاز والأسْواق وغيرِها؛ "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" [الإسراء: 36], وإنْ كُنْتَ ممَّن يعُقُّ والدَيْه فابْدَأْ معَهُما مِنَ اليوم صفحةً جديدةً، شعارُكَ فيها: التودُّدُ إليهما، والحُبُّ والدعاءُ لهما، وتنفيذُ أمرِهِما في غَيْرِ معْصِيَةِ اللهِ.
لا تغترر بشباب رائق خضلٍ *** فكم تقدم قبل الشيب شبـانُ
لا تحسبن سرورا دائمًا أبدًا *** من سره زمن ساءته أزمانُ
وأنتِ أيَّتُها الأخت المسلمة: عليْكِ بطاعةِ الله ورسولِه، ثمَّ عليْكِ بطاعَةِ زوْجِكِ في غَيْرِ معصيةِ الله، وافْتَحِي صفْحةً جديدةً مع ربِّكِ الرَّحمن, كوني عَوْنًا لزوجِكِ على الطَّاعة، وإيَّاكِ أن تكوني عونًا له على المعْصية, واعلمي بأنَّ توبَتَكِ في الحقيقةِ هيَ الحجَاب؛ فتمسَّكي بالحجاب وعَضِّي عليْهِ بالنَّواجِذِ, وإيَّاكِ والتبرَّجَ في الأسْوَاقِ والشَّوارِعِ، ولا تصافِحِي أوْ تلْمَسِي رَجُلاً غَيْرَ محَارِمِكِ.