المشرف العام الشيخ الدكتور

محمد عبدالكريم الشيخ

إليك يا ذات الحجاب

إليك يا ذات الحجاب

إنني أقف اليوم مشدوهاً حين أكتب عن قلعة من قلاع الإسلام الحصينة، وصرح من صروحه العالية، فتستعصي عليّ الكلمات، وتتعنت العبارات، وأجدني أقدح زناد قريحتي بحثاً عن كلام يليق بهذا المقام السامي، ومقال يناسب تلك المنزلة السامقة.

إنها شهادة في حق من آثرت الآجلة على العاجلة، ومن اختارتْ ما عند الله على متاع الدنيا الفاني؛ فتغلبت على حظوظ نفسها، وسيطرت على نزواتها، ولم تأبه لدعوات التفسخ تحت ستار الحرية، ولا لنداءات الانحلال خلف قناع التحرر.

اعتزت بعبوديتها لله عزّ وجلّ، وفخرت باتباعها لنبي الهدى عليه الصلاة والسلام، فلم تلتفت لمن أراد لها أن تكون بضاعة مزجاة في سوق الخنا والرذيلة، جسداً بلا روح يُعرض في إعلانات البضائع وتسويق السلع؛ ليدر أموالاً طائلة، تنتفخ لها جيوب التجار الوضعاء.

ويصبح مطية يستمتع بها السفهاء الساقطون في سوق النخاسة، ليحرموها من الأمومة والدفء الأسري، ويخرجوها من المنزل لتزاحم الرجال؛ فتسترجل وتفقد أنوثتها – وقبلها حياءها – فتعود إلى عصر الجاهلية الأولى، مع الفارق: وهو أنها كانت في الجاهلية الأولى تُوأد حية خوف الفضيحة والعار، وتُوأد اليوم حية تصحبها الفضيحة، ويتبعها العار!

قررت أن تكون زمردة محفوظة، تقتدي في طهرها وتقواها بأمهات المؤمنين، وتتأسى في عفافها وإيمانها بصحابيات النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهن أجمعين، فأطاعت ربها، وأحصنت شرفها، ولم تبدِ زينتها إلا لمن استثناهم الشرع الحنيف.

قاومت بحجابها الشامخ إغراءات الذين في قلوبهم مرض، ممن أرادوا تمرير مخططاتهم الخسيسة، وإشباع رغباتهم الدنيئة، فلم تكترث بصيحات الموضة وصرخات التقليعات – بالرغم من حبها كسائر النساء للزينة ولفت الأنظار – وعاشت مرفوعة الرأس، توشك أن تناطح الثريا بكبريائها، وتكاد هيئتها تصدع قائلة:

ومما زادني شـرفاً وتيهـــــــا  **  وكدتُ بأخمصي أطأ الثريَّا

 دخولي تحت قولك يا عبادي  **  وأن صــــيرت أحمــدَ لي نبيَّا

لم تنخدع حين وقع غيرها صيداً سهلاً لكل ناعق يدعو للسفور والتبذل، ولم ينطلِ عليها ما نثروه حولها من معسول الغزل وخادع الوصف، حين سقط سواها في فخ الانحطاط والإسفاف، وكان شأنهن شأن من قال فيهن القائل:

خدعوها بقولهم حسناءُ ** والغواني يغرُّهن الثناءُ

أدركت الحكمة في خلقها مختلفة عن الرجال، ولم تغرها دعاوى المساواة، فاختارت من المهن ما يناسب فطرتها التي فطرها الله عليها، وكانت أماً ومربية للأجيال وصانعة للرجال.

هي القابضة على الجمر في عهد التهتك، الغريبة في زمن الإمِّعات الذين يروحون ويغدون بروح القطيع، يحسنون إذا أحسن الناس، ويسيئون إذا أساؤوا، ويلهثون خلف كل راية حين فقدوا البوصلة، ويسمعون لكل تافه روييضة حين أضاعوا الإيمان؛ فصاروا يحسبون كلَّ صيحة عليهم، وكلَّ سرابٍ ماءً!

لم تعبأ بمن وصفها بالرجعية ممن يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولم تهتم لمن نعتها بالتخلف ممن لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة؛ لأنها تعلم أن التقدم والرفعة في اتباع شرع الله تعالى، وأن الفلاح والنجاة في اقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فعاشت في راحة قلبية بإيمانها، يحسدها عليها الملوك، وسعادة نفسية بيقينها، لو علم بها الرؤساء لجالدوها عليها بالمدافع!

عاشت عزيزة بالرغم من التضييق عليها، وقوية على ما تجد من ازدراء وتعالٍ، وصامدة مع ما تلقى من إغراء.

إذا قيل لها: عيشي حياتك كسائر النساء، قالت (الآخرة خير وأبقى)، وإذا قيل لها انزعي حجابك خوف الحرّ قالت: (قل نار جهنم أشد حرَّاً لو كانوا يفقهون).

وبعد، فإنني لا أملك في ختام هذه الكلمات الخجولة المتواضعة إلا أن أرفع يدين ملؤهما الرجاء إلى الله تعالى أن يثبتك في وجه عواصف التغرير التي تريد انتزاعك من جذورك وطمس هويتك، وأن يعصمك من طوفان الفتن التي تحاول إغراقك في وحل الفجور ومستنقع البغاء.
فامضي على بركة الله لا يضرك شيء، وثقي بأن السفوح المنحطة لن ترقى إلى القمم المنيفة، وأن بغاث الطير الحقيرة لن تطمح يوماً إلى النيل من النسور الشامخة.