جمال محمد علي
قال البروفسير مختار أحمد مصطفى في تعقيبه على تقرير بصحيفة الصحافة السودانية بعنوان "البحث العلمي في السودان في خطر: " وأعتقد أنّ المشكلة تنبع في التعليم العام من ضعف مناهج اللغة الإنجليزية، وقلة ساعات الاتصال نتيجة قصور السلم التعليمي، وضعف تأهيل وتدريب معلمي اللغة الإنجليزية، وبيئة المعلم الطاردة. و نتيجة لتدني مستوى الطلاب في اللغة الإنجليزية في مرحلتي التعليم العام، شق على الطلاب متابعة المحاضرات في الجامعة، و في أداء الامتحانات و شق على الأساتذة متابعة اجابات الطلاب في كراسات الامتحان فضلا على تنامي الاحساس القومي باستخدام لغة الأم في التدريس. أدى كل هذا لتعريب الدراسة في الجامعات في عام 1990، وحتى لا يؤثر التعريب سلباً على اللغة الإنجليزية وضعت خطة لتدريس اللغة الإنجليزية من ضمن مناهج مطلوبات الجامعة مع تدريس مقرر أو اثنين في كل قسم باللغة الإنجليزية. ولكن للأسف كانت الساعات المقررة لتدريس هذه اللغة بسيطة، وكان تقديرها على أساس نجاح/رسوب (Pass/fail)، مما أدى إلى عدم اهتمام الطلاب بها؛ كما لم تهتم بها الكليات مما أدى لفشل الخطة في تحقيق الهدف المنشود، وانعكس هذا بدوره في ضعف مستوى الخريج في اللغة الإنجليزية. لذلك عندما يسجل بعضهم في كلية الدراسات العليا، يعجز معظمهم من قراءة الأوراق العلمية ولا يستطيع كتابة الأطروحة إلا بمساعدة كبيرة جدا من المشرف. أما مساعدوا التدريس الذين يتلقون درجاتهم كلها محليا يعانون من عيوب التوليد الداخلي (Inbreeding) لو جاز التعبير. و قد يحصل الشخص منهم على درجة الدكتوراة وهو ضعيف في اللغة الإنجليزية فينقل ضعفه لطلابه في جامعته.
ولعلاج ضعف مستوى البحث العلمي اقترح بروفيسور مصطفى جملة من التوصيات متسقة مع تحليله للظاهرة ومنها:
في التعليم العام:
ـ إعادة النظر في السلم التعليمي وإضافة عام لمرحلة الثانوي؛ ليصبح السلم 8 سنوات لمرحلة الأساس و4 سنوات لمرحلة الثانوي؛ على أن يبدأ تدريس منهج اللغة الإنجليزية في الصف الرابع في مرحلة الأساس. ولقد أجاز مؤتمر التعليم القومي إضافة سنة ولكن لم تنفذ. أرجو أن يتم التنفيذ مع أخذ مشكلة اللغة الإنجليزية في الاعتبار.
ـ مراجعة وتقوية منهج اللغة الإنجليزية في مرحلتي الأساس والثانوي. ويجب استصحاب المنهج المتبع في الفترة ما قبل 1964 كتجربة سابقة حققت نجاحا كبيرا.
ـ إدخال منهج اللغة الفرنسية أضر باستيعاب الطالب لمنهج اللغة الإنجليزية. و الطالب يتخرج حاليا في مرحلة الأساس وهو أضعف ما يكون في اللغتين. أوصي بحذف منهج اللغة الفرنسية. ويمكن أن يدرسه الطالب في الجامعة مثله مثل سائر مناهج اللغات الأخرى.
ـ وضع سياسات جديدة تغير بيئة المعلم و تجعل مهنة التدريس مهنة جاذبة وليست طاردة.
ـ الالتزام بتعيين معلمين مؤهلين لتدريس اللغة الإنجليزية. والالتزام بتعيين خريجي كليات التربية (لغة إنجليزية)، ثم خريجي كلية الآداب (لغة إنجليزية).
ـ إعادة تأهيل ودعم معهد بخت الرضا ورفع قدراته البشرية، والمادية، وترقيته وإرجاعه لسيرته الأولى، ليكون مركز تدريب متميز للمعلمين كما كان في الماضي، وذلك بالتعاون مع كليات التربية.
ـ زيادة ميزانية التعليم العام، وعدم اخضاعها للتغيير الذي تتطلبه المتغيرات الأخرى.
في مرحلة التعليم الجامعي :
ـ يرفع العبء الدراسي للغة الإنجليزية إلى عشر ساعات في كل الكليات.
ـ تراجع المناهج لكل كلية حسب تخصصها؛ على أن تدرس اللغة العلمية للمساق العلمي وتدرس اللغة للأغراض الخاصة حسب مناهج الكليات.
ـ تدرس اللغة الإنجليزية ضمن مطلوبات الكلية، وتصحح الامتحانات وفق النظام المتبع في الكلية، وليس على أساس نجاح/رسوب.
ـ يقوم قسما اللغة الإنجليزية بكليتي الآداب والتربية بتدريس منهج اللغة الإنجليزية، وذلك حفاظاً على المستوى المطلوب.
ـ يجب أن تعامل الكلية مقررات اللغة الإنجليزية بنفس القدر من الانضباط مثل مقررات الكلية الأخرى.
في مرحلة الدراسات العليا:
تضاف لشروط القبول شرط النجاح في الامتحان الأمريكي (TOFEL) أو الامتحان البريطاني (IELTS) في اللغة الإنجليزية، أو النجاح في امتحان المقرر الخاص في اللغة الإنجليزية الذي تقدمه كلية الآداب بجامعة الخرطوم
تعقيب على تعقيب:
ورغم اتفاقي مع البروفيسور في وجود أزمة في البحث العلمي بمختلف مستوياته؛ التخرج والماجستير والدكتوراة إلا أنني اختلف معه في تشخيصه للظاهرة وبالتالي في التوصيات التي وضعها لحل المشكلة .
ويبدو أنّ البروف لاحظ قوة البحث العلمي في الستينيات من القرن الماضي لما كانت الدراسة في الجامعات باللغة الإنجليزية وكان مستوى الخريجين متميزا فيها فاعتقد أن قوة البحث في ذلك الوقت كانت محصلة للقوة في اللغة الانجليزية وهذا ما يؤكده قوله أول بحث ماجستير أشرف عليه تم نشره في مجلة متخصصة .
ولا أرى علاقة بين إجادة اللغة الانجليزية واتقان البحث العلمي وذلك لعدة أسباب منها:-
إنتاج بحث علمي جيد يتطلب مهارات خاصة يمكن إجمالها فيما يلي:-
– التدريب الفكري والفني واكتساب خبرة العمل.
– دراسة عدد من العلوم المحددة.
– اكتساب عدد من التقنيات التي تؤهله للبحث مثل التعبير عن الأشياء بلغة الرموز.
– القدرة على معالجة الأفكار القائمة فيما بينها.
– صياغة الأفكار بلغة صورية.
– تقييم مدى صحة هذه العمليات.
– معالجة البيانات وفهم مدلولها.
– تعميم التجارب في صورة تفضي إلى نتائج هامة ومتميزة.
– عرض الأعمال التي اطّلع بها الآخرون.
وفي الصفات الشخصية الواجب توافرها في الباحث يذكر المهتمون بهذا الجانب:
– الخيال والأصالة
– المثابرة.
– سعة الأفق.
– الحصافة .
– الأخلاقية أو المهنية.
– عدم التحيز.
وبالنسبة لباحث مسلم نزيد بعض الصفات منها :-
ـ إرادة التغيير والرغبة في الإصلاح.
ـ الرغبة الجامحة في إضافة جديد ومؤثر على العلم والمعرفة.
ـ الرغبة في الإسهام في تشكيل صورة الوعي السياسي والثقافي والفكري والإنساني للأمة.
ـ القناعة الراسخة بخيرية الإسلام وأفضليته على سائر المناهج والرغبة في تصدير فكره الهادف لخير البشرية جمعاء.
ـ التمكن في اللغة وتطويعها مع القدرة على الصياغة الإبداعية والارتجال لا سيما في البحوث (الفكرية والتوثيقية) لعدم ارتكازها في الغالب على مرجعية تراثية ينتفع الباحث بتراكيبها وعباراتها ومفرداتها وصياغة الكاتب الأول في عصور قوة اللغة وسهولة التعبير.
ـ الالتزام بمستوى من اللغة في البحوث التراثية نفسها تفاديا لمشكلة الهبوط والارتفاع المفاجئ بين الأساليب الرفيعة للغة في عصور قوتها وازدهارها والأساليب الركيكة للباحثين اليوم.
ـ متابعة وسائل الإعلام والوقوف لحظة بلحظة مع مجريات الأحداث.
ـ سعة الاطلاع والثقافة الواسعة بمجال البحث.
ـ الخبرة العملية الطويلة في مجال الدراسة .
ـ معرفة الواقع موضوع الدراسة والمعرفة التامة بالفئة المستهدفة بالدراسة .
وهذه مهارات قد يمتلكها باحث لديه أكثر من لغة أو باحث يتعامل مع لغة واحدة .
كان العرب والمسلمون يتقنون فنون البحث والكتابة منذ فجر التاريخ وقبل أن تصبح اللغة الإنجليزية لغة معترفا بها عالميا، فكانت اللغة العربية هي لغة البحث والتأليف وما زالت بعض الدول العربية تنتج بحوثا علمية ممتازة ومؤثرة دون أن يتقن باحثوها وطلاب دراستها العليا اللغة الإنجليزية.
هناك دول إفريقية وعربية كانت مستعمرة من قبل فرنسا وينتج طلابها وباحثوها بحوثا قيمة جدا دون أن يكون لديهم اتصال أو معرفة باللغة الانجليزية.
هناك دول عديدة في العالم تحارب اللغة الإنجليزية وترى أن لغاتها رغم غرابتها وصعوبة تعليمها أفضل من اللغة الانجليزية وترفض بشدة استخدامها في أي محفل من محافلها ولم تعان أزمة في البحث العلمي لديها، وما تزال تحقق نجاحات كبيرة في هذا المجال.
أذكر لما كنا طلابا في الجامعة كان لدينا طلاب متخصصون في اللغة الانجليزي ولكنهم كانوا ضعافا جدا في قدراتهم البحثية ، وما زال طلاب الدراسات العليا في اللغة الإنجليزية يعانون من ذات المشاكل التي يعاني منها غيرهم من الدارسين.
أسباب أخرى:
ولضعف البحث العلمي بمختلف مستوياته في الجامعات السودانية أسباب عديدة (سنعرض لها في مقالات لاحقة بإذن الله).