علي صالح طمبل
كثيراً ما أستمع إلى أناس حصلوا على أعلى الدرجات العلمية وأرفع الألقاب الأكاديمية في العلوم الشرعية، لهم من المؤلفات الكثير.
ودرس على أيديهم من الطلاب الكثير، وأشرفوا على مئات الرسائل الجامعية، وحاضروا في شتى بقاع الأرض.
كثيراً ما أتساءل وأنا أستمع إليهم: لماذا نستمع إلى هؤلاء فلا ينفذ حديثهم إلى قلوبنا، ولا نجد لعلمهم بركة تجعله يبقى لينفع الناس ويمكث في الأرض؟!
كان هذا التساؤل يلحُّ عليّ كثيراً حتى قرأت أثراً مروياً عن عمر بن ذر أنه قال لأبيه ذات يوم: يا أبي، مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟! فقال: (يا بني؛ ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة)..
فعلمت حينها أن الإخلاص هو أهم سبب في تحصيل بركة العلم وجني ثماره في الدنيا قبل الآخرة، وأن قوة تأثير الإنسان على الآخرين تعتمد على قوة إخلاصه وإيمانه بما يقول، فكلما كان إخلاصه قوياً كلما انعكس ذلك إيجاباً على تأثيره في غيره.
ثم إن هناك سبباً آخر لتحصيل بركة العلم الشرعي، ألا وهو العمل؛ فلا يمكن أن يدعو الإنسان إلى أمر لا يفعله، ولا يطبقه في حياته، فيخالف الناس في ما يأمرهم به وينهاهم عنه.
قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ( [سورة الصف: الآيتان 2-3]) أي: لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به، فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، قال تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُون) [سورة البقرة: الآية 44]، وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) [سورة هود: الآية 88]) ا.هـ.
وقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (هتف العلم بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل) (أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل)، وقال ابن القيم رحمه الله: (لو نفع العلم بلا عمل لما ذمَّ الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذمَّ الله المنافقين) (الجواب الكافي: ص 240).
وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه القيم (حلية طالب العلم) ست علامات يعرف بها العلم النافع، وهي:
1. العمل به.
2. كراهية التزكية والمدح، والتكبر على الخلق به.
3. تكاثر تواضعك كلما ازددت علماً.
4. الهرب من حب الترؤس والشهرة والدنيا.
5. هجر دعوى العلم.
6. إساءة الظن بالنفس، وإحسانه بالناس، تنزهاً عن الوقوع بهم.
والناظر في حال كثير من المشتغلين بالعلم الشرعي، سواء كانوا علماء أو دعاة أو طلبة علم أو أساتذة جامعات يجد أنهم لم يعنوا بجانب الإخلاص، فكان العلم عندهم وجاهة ومظهراً من المظاهر التي تجلب الثناء وتستدر إعجاب الناس، يجارون به العلماء، ويمارون به السفهاء؛ ليس لله فيه نصيب، بل لحظوظ النفس وشهواتها، كما لم يعملوا بما علموا ولم يكونوا قدوات يقتدى بهم، لا في أنفسهم، ولا في ذرياتهم، وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [سورة الفرقان: الآية 74].
هؤلاء كان كان نصيبهم من العلم ثناء الناس عليهم واحترامهم لهم بشتى الألقاب التي تبعث السرور في نفوسهم، وتشبع حبهم للشهرة والذيوع؛ لذلك لم مستغرباً أنهم حرموا بركة العلم. وفي حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار أول ما تسعر من رواية مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (… ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأُتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ؛ فقد قيل. ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار).
وقد صدق من قال
وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو مريضُ
إن العلم إذا لم يصدر عن إخلاص لله تعالى وحده، وتبعه عملٌ بمقتضاه: انتُزعت منه البركة في الدنيا، واستحق سخط الله وعذابه، وكان وبالاً على صاحبه يوم القيامة، نسأل الله تعالى أن يعلمنا علماً نافعاً، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.